فهمنا للحاضر يبدأ من الماضي، وتحديداً قبل أكثر من خمس سنوات. كانت فكرة شركة توصيل البضائع والأكل هاجس وفرصة حاول الكثير حلها، شخصياً أتذكر في سنة ٢٠٠٥م أن شركة أطلقت في المنطقة الشرقية تحت اسم (رجل التوصيل). لاحظ أن هذا كان قبل الجوالات وحتى انتشار الانترنت بالشكل الذي نستخدمه اليوم. الشركة ببساطة كانت تقدم الخدمة من خلال تعاقدها مع عدد من المتاجر وتقوم بتسويق بضائعهم. العميل يستطيع تصفح الكاتلوج الذي توزعه الشركه، ويقوم بالطلب من خلال الاتصال على رقم مجاني، ولا أدري لو كان لديهم موقع إلكتروني. وتلى تلك الشركة العشرات أو ربما المئات من المحاولات لبناء نموذج خاص بالتوصيل.
مشاريع التوصيل تلك، لم تكن جاذبة للمستثمرين. فهي خدمة مبنية على علاقات مع المتاجر أو مزودي البضائع الفعليين. السوق لم يستوعب فكرتها والمشكلة التي تحلها، وأقصد بالسوق العملاء والمستثمرين وموزودي الخدمات. ففعلياً ما كان يحدث حينها أن سوق جديد لم يكن موجود سابقاً، يمر بمرحلة المخاض. وفي منطق السوق عملية المخاض هذه تكلف الكثير من المال والتجارب والمحاولات لحين الوصول للمعادلة الصحيحة. ولكن نظراً لاحتياج مشاريع التوصيل للأصول، سيارات ورخص وسائقين. وعدم وجود تشريعات خاصة بتلك الشريحة، أدى لتعطل عملية البناء وتأخرها لسنوات. ولكن خلالها لم تتوقف التجارب والمحاولات.
نتخطى بشكل سريع لسنة ٢٠١٥م، والتي تم فيها الاعلان عن الاستحواذ على شركة طلبات الكويتية من قبل مستثمر أجنبي بقيمة ١٧٠ مليون دولار. وهذا الإعلان أرسل رسالة قوية لسوق الاستثمار. وقد تكون تلك الصفقة، هي القشة التي قصمت ظهر البعير، وفتحت الأعين على الاستثمار في التقنيات ونماذج العمل الجديدة، وظهر ما يشبه حمى الذهب. ولا أعني الاستثمار في شركات التوصيل فقط بل في كافة الشركات التي تعتمد على التقنية.
سوق التوصيل في السعودية
قد تكون عملية الاستحواذ تلك، وكون عملية التوصيل مرتبطة بالمستهلك النهائي، وأيضاً لإرتباطها بأحد الحاجات الانسانية الضرورية (الأكل)، جعل من ذلك القطاع يمر بحالة فوضى. فوضى حميدة وحراك دائم امتد من ٢٠١٥ وحتى الآن. أذكر في عز تلك الفوضى، سنة ٢٠١٧م، أني في وقت عملي في الاستثمارات أننا توقفنا عن العد عند ٣٠ شركة وتطبيق خاصة بالتوصيل فقط. وكان الدافع لدى الكثير من المستثمرين هو الاستثمار في ذلك القطاع فقط ليكونوا جزء منه. ضخت عشرات الملايين وربما المئات في ذلك الجزء من السوق، لبناء ودعم الشركات. ولكن لننسى الشركات الآن، وندرس ما الذي كان يحدث فعلياً في السوق.
أي سوق، أو تقنية، جديدة تمر بمراحل للبناء. في المراحل المبكرة، لا تجذب التقنية إلا الأشخاص المهتمين والذي يحبون التجارب (Early Adaptors)، بمرور الوقت تتطور التقنية وتزداد الثقة فيها ليأتي بعدهم الغالبية. ولكوننا نتحدث عن تطبيقات التوصيل، والتي كما أشرنا سابقاً تعمل كوسيط في السوق، بين البائع والمشتري، تنطبق فكرة تبني التقنية على الجهتين. في السوق، التطبيقات تحتاج لإقناع المطاعم والمقاهي، وفي الوقت ذاته تحتاج لإقناع المشترين.
الإقناع تم في البداية للمستخدمين الذين كانوا يبحثون عن السهولة والسرعة، خصوصاً، مع وجود شريحة كبيرة منهم لا يفضلون الخروج في الزحمة، أو لا يستطيعون (قبل قرار السماح للسيدات بالقيادة). فكانت التطبيقات هي الحل الأمثل. أضف لذلك، الانفاق الهائل في عملية التسويق وتبسيط الفكرة وتوضيح فوائدها للمستخدم. مع وجود العملاء، لم تجد تطبيقات التوصيل مشكلة في إقناع المطاعم للإنضمام والبيع من خلالهم. القصة بالنسبة للمطعم كانت لا تتعدى جهاز يوضع بجانب الكاشير، ويقوم بايصال الطلبات له، مع حصول على التطبيق على نسبة من عملية البيع تلك.
ومع كثرة التطبيقات والتي وصلت إلى قمتها في فترة ٢٠١٧م تقريباً، وجد المطعم نفسه أمام متنافسين عده، يعرضون عليه تلك الأجهزة بعروض خيالية، إعفاء من الرسوم والعمولات لفترات طويلة، إعلانات للمطعم في التطبيق. والمطاعم لم تكن تصدق ما كان يحدث. وساعدتهم في المحافظة على مبيعاتهم وزيادتها بتكاليف منخفضة إن كان هناك أية تكاليف.
في ضمن ذلك الحراك كان هناك حرب خفية تحدث بين تطبيقات التوصيل. ومع محدودة تلك التي كانت مدعومة من مستثمرين، لم يجد الغير مدعومين بداً من تغير نموذج عملهم أو التوجه لمناطق بعيدة أو الانسحاب من السوق كلياً. واستأثر خمسة تطبيقات تقريباً بحجم هذا السوق، مع وجود تطبيق واحد يمتلك أكثر من نصف عدد العمليات.
ما الذي تم بناءه وكيف؟
لإستيعاب ما حدث ولماذا كانت المطاعم متضايقة من آلية العمل الخاصة بالتطبيق، خصوصاً اليوم نحتاج لدراسة وضع المطاعم قبل، وأثناء الفوضى، وما وصلنا له اليوم. سأعتمد على أرقام عامة، لكي لا يفهم من نقاشي أن استهدف ألية عمل محدد أو تطبيق أو مطعم محدد. بداية من المرحلة الأولى والتي تسبق دخول التطبيقات لسوق التوصيل، والخدمات التي كانوا يقدمونها.
الهدوء الذي سبق العاصفة
المطاعم كانت ولازالت تبيع المأكولات من خلال أربع قنوات رئيسية. الطلبات المحلية، أو الأكل في المطعم. الطلبات الخارجية، والتي يقوم فيها المشتري بالدخول للمطعم وطلب وجبته ليأكلها خارج المطعم. وطلبات السيارات وهي فرع آخر من الطلبات الخارجية والتي لا يحتاج العميل للنزول من سيارته. وأخيراً، طلبات التوصيل، والذي يقوم فيها العميل بالاتصال بالمطعم للطلب، ومن ثم يقوم المطعم بإيصال الأكل له. يختلف توزيع الطلبات بين الأنواع الأربعة بإختلاف المطعم. نستطيع القول بأن المطاعم الفخمة، نسبة الطلبات المحلية فيها عالية، بل إن بعضها يمتنع عن البيع في القنوات الأخرى لكي لا يتأثر الأكل وجودته من خلال عملية النقل. وهذا ليس هو السبب الوحيد، فالمطاعم الفخمة تبيع خدمة بالإضافة للأكل، شعورك بالترحيب، وتفاعل الجرسون أو المضيف معك، وسؤاله المستمر عن جودة الطعام ورأيك فيه. كما أن الطاولات هادئة ومريحة. وهذا ينعكس على قيمة الوجبة الواحدة، فالماء الذي يكلف خمسة ريالات يباع عليك بعشرين ريالاً، لأنك لا تدفع للماء فقط، بل للماء + الخدمة.
النقاش السابق يأخذنا للحديث عن التكلفة، وشكل قائمة الأرباح والخسائر للمطاعم. وفيها، في المطاعم والمقاهي، تنقسم المبيعات كما سبق شرحه. أما التكاليف فتنقسم إلى مجموعتين. الأولى هي مجموعة تكلفة إعداد الطعام، وهذه التكلفة متغيرة. وتشمل هذه المجموعة تكاليف المواد الداخلة في تجهيز الطعام، مثلاً، كوب القهوة يكلف ٢٠ جرام بُن وكوب ورقي واحد و ٢٠٠ ملليتر ماء. وتوست الجبن، يكلف ٣٠ جرام جبن وشريحتين خبز، وهكذا. هذه التكاليف قيل عنها أنها متغيرة كونها تزيد مع كل طلب إضافي يطلبه المطعم. وعادة ما تتراوح نسبتها من إجمالي التكاليف للمطاعم بين ٣٠ إلى ٥٠٪، وقد تزيد عن ذلك أو تنقص.
المجموعة الثانية من التكاليف وهي التكاليف الثابتة للفرع أو المطعم، وتشمل رواتب الموظفين والرسوم الحكومية، والإيجار والديكور وغيرها. وهذه تختلف باختلاف المطعم، فقد تكون قيمتها عالية للمطاعم الفخمة، وتكون منخفضة نسبياً للبوفيات والمطاعم السريعة. هذه التكاليف هي ثابتة ولكنها ثابتة ضمن نطاق معين. فالمطعم الفخم مثلاً، إذا زادت مبيعاته يعني ذلك أن إستهلاك الديكورات أصبح أسرع ويحتاج للتجديد، وكذلك عدد الموظفين فالطباخ الواحد مثلاً، يمكنه إنجاز مائة وجبة في اليوم إذا وصل عدد الطلبات إلى ٣٠٠ وجبة، سيحتاج لإضافة طباخين جدد، وهكذا.
اختصار ماسبق يمكن مشاهدته في الشكل التالي، والذي يلخص حالة المطاعم قبل دخول التطبيقات للسوق:
عاصفة التوصيل
مع دخول التطبيقات لقطاع المطاعم، وزيادة عدد العملاء الذي يرغبون باستخدام تلك التطبيقات. لم تجد المطاعم والمقاهي بديلاً، عن الدخول خصوصاً، مع اسلفنا من التسهيلات والعروض التي قدمتها تلك التطبيقات والتي كانت بتمويل من المستثمرين. التطبيقات فتحت قناة جديدة للمطاعم ليتم زيادة المبيعات من خلالها. من نظرة التطبيقات، هي خدمة للتوصيل، ولكن من زاوية المطعم هي في الواقع مبيعات جملة تتم على هيئة طلبات خارجية. هو لا يعلم من هو المشتري ولا عن مكانه ولا مؤشر لديه عن جودة أداءه إلا بزيادة المبيعات أو انخفاضها. وهذه الأخيرة قد تكون مضللة له، نظراً لتحكم التطبيق بواجهة العرض على المستخدمين. فلو قرر التطبيق إخفاء المطعم أو إظهاره في أسفل القائمة فلن يحصل هذا الأخير على ذات الكمية من الطلبات.
في البداية لم يتأثر الكثير من المطاعم، بسبب المنافسة بين التطبيقات والعروض التي كانت متوفرة للمطاعم. كما أن نسبة المبيعات من هذه القناة لم تكن مرتفعة، كون السوق لا يزال في مرحلة التجربة و (Early Adaptors). المحصلة النهائية، كانت زيادة بسيطة في المبيعات دون ارتفاع جوهري في التكاليف.
لاحظ أن المطعم حقق ٣٠٪ مبيعات إضافية، أو ٣٠ ألف ريال، مقابل زيادة في التكاليف الثابتة مقدارها ألف ريال فقط (مصاريف التسويق والتشغيل والتطبيقات كانت في المرحلة الأولى ٤٠ ألف ريال، وأصبحت في المرحلة الثانية ٤١ ألف ريال). انخفاض المصاريف التسويقية سببه تقليل الحاجة لعمل حملات تسويقية أو طباعة بروشورات وتوزيعها. والمصاريف لم تزيد كون المطعم لا يزال في نطاق حجم الطاقة القصوى. فما حصل أن المطعم إرتفعت كفاءته دون الحاجة لزيادة المصاريف الثابتة.
تشكل السوق والسيطرة
مع بلوغ المنافسة ذروتها في قطاع توصيل المطاعم، بدأ صغار المنافسين بالخروج، وبدأت شركات أخرى أقوى تدخل على خط المنافسة. حتى سيطرت على السوق أربع أو خمس شركات كبيرة، وبدأت العلاقة بالتغيير. وهذا حدث بشكل أسرع في الكويت والتي تم فيها رفع قضية احتكار على اثنين من أكبر اللاعبين في سوق التوصيل (مصدر). كما وأنه مع نضوج السوق، وخروج المنافسين، أصبحت هي الهدف الذي يبحث عنه المستثمرين في تلك التطبيقات.
كما وأن زيادة عدد المستخدمين للتطبيقات دفعت بنسبة مساهمة التطبيق في مبيعات المطعم ترتفع بشكل يجعل القوة في المفاوضة من صالح التطبيقات، دون المطعم. أصبح النموذج الخاص بمعظم تلك التطبيقات، هو رسوم للتوصيل يدفعها المشتري (تتراوح بين ١٠ و٣٠ ريالاً)، بالإضافة على عمولة من الوجبة التي يبيعها المطعم (تترواح بين ١٥ إلى ٣٠٪). هذه النسبة تحتسب على التكاليف الخاصة بالوجبات التي تباع من خلال التطبيق.
لاحظ أن الشكل أعلاه، أخذنا نسبة ٢٠٪ من المبيعات بالتالي أصبح تأثير تلك المبيعات على المطعم ١٠٪، كون نصف مبيعاته مصدرها التطبيق. كما أنه ومع نضوج السوق، أصبح على المطعم زيادة مصاريفه في التسويق لإستقطاب العملاء، كما أن زيادة المبيعات أثرت على مصاريفه التشغيلية والتي احتاج لزيادتها لوصوله لمستوى أعلى من طاقته الاستيعابية كما هو في المرحلة الثانية.
المحصلة النهائية لا يزال بعض المطاعم يتمتعون بعوائد أعلى من حالهم قبل وجود التطبيقات، ولكن الأرباح قلت عما هو الحال في المرحلة الثانية. بطبيعة الحال، نحن هنا نتكلم عن حالة افتراضية، هناك مطاعم رفعت كفاءتها وحققت عوائد أعلى، ومطاعم زاد اعتمادها على التطبيقات فانخفضت إيراداتها. لاحظ أن المطعم الذي سيعتمد على التطبيق بشكل كامل، ستكون تكاليفه المتغيرة من ٥٥٪ إلى ٧٥٪، دون احتساب المصاريف التسويقية والمصاريف التشغيلية. بالتالي قد يصل الحال ببعض المطاعم للخسارة.
بعض المطاعم كانت تشتكي وعلى الصوت وقتها. بطبيعة الحال ليس السبب كونها تحقق خسائر، ولكن تحليل تلك التكاليف وقياس القيمة المضافة من التطبيقات لم يكن منطقياً للبعض. ولكن الكثير لم يمانع الزيادة في المبيعات والانخفاض البسيط في الأرباح. وهذا كان الحال قبل أزمة كورونا، لنحاول اكتشاف ما الذي حدث حينها.
أزمة كورونا
أزمة كورونا، تسببت بأمرين وكلاهما لم يكن في صالح التطبيقات. الأول، تحول المبيعات بشكل شبه كامل ليكون عبر التطبيقات، بالتالي النسبة المذكوره أعلاه أصبحت قريبة جداً من ١٠٠٪، أي أن التكاليف المتغيرة على المطاعم بدأت تقترب من سقف ٦٠ و ٧٠٪، وهذا مع ثبات التكاليف على المطاعم، وانخفاض المبيعات.
والأمر الآخر، تعودت، أو أدمنت، بعض المطاعم على أن التطبيقات، فقلصت من كفاءة أعمالها التسويقية وعلاقتها مع العملاء. لإعتقاد تلك المطاعم أن التطبيقات تدير العلاقة مع العملاء بشكل ممتاز. وعندما بدأ الحجر، اكتشفت المطاعم أن التطبيقات لم تكن جاهزة، ولم تتمكن من مساعدة المطاعم في الحفاظ على أرقام المبيعات. كما وأن التطبيقات بدأت بتوصيل منتجات أخرى غير الأكل، مما أثر على قدرتها الاستعابية للطلبات (التقنية أو اللوجستيه). وحينها بدأت تثار أسئلة حول قيمة ما يحصل عليه المطعم مقابل النسبة التي يدفعها للتطبيق. كما أعيدت للطاولة قضية العلاقة مع العميل. فالمطعم يعتقد أنه لو بنى العلاقة مع العميل، وتأكد العميل من نظافة الأكل والإعداد لما انخفضت ثقته ومبيعاته.
كيف أصبحت الأرقام بعد تلك الأزمة؟
بطبيعة الحال هذه الأزمة، حالة غير طبيعية للسوق وبالتالي لا يمكن تعميمها على حالة السوق بعد الأزمة. عجل الله بإنفراجها وحفظنا وإياكم. لاحظ أن المطعم قد يصل للخسارة أو للربح، بناء على المعطيات الواقعية. والحالة المشروحة أعلاه لتوضيح الفكرة فقط.
ماذا عن المستقبل
تتردد كثيراً مقولة عالم ما بعد كورونا لن يكون مثل عالم ما قبل كورونا. بإعتقادي أن ماحدث في حالة تطبيقات التوصيل، هو تعجيل بكشف الأوراق وإيضاح إشكالية النموذج الخاص بتطبيقات التوصيل وأن فيه عيوب تحتاج للمراجعة والتصحيح مع وصول حجم السوق لما وصله الآن. نشرت في مقالي السابق، أني غير مؤمن بفكرة أن الاقتصاد التشاركي في تطبيقات التوصيل هو نموذج صحي. هو نموذج مثالي للنمو السريع، ويساعد التطبيق على الوصول إلى مناطق جديدة وخدمتها بشكل ملائم. ولكن عندما نتحدث عن النموذج المستقر، فهو بعيد كل البعد عنه.
التكلفة الثابتة والمتغيرة
المصاريف من منظور الشركات إما أن تكون ثابتة، أو تكون متغيرة، كما أوضحنا أعلاه. تحليل ونقاش أيهما أفضل للشركات يطول، وقد يطول. ولذلك للتبسيط، الشركات تفضل أن تكون مصاريفها متغيرة في الأعمال التي لا تصب ضمن نشاطها الروتيني والدائم، أو الأعمال التي لا تشكل قيمة جوهرية في نشاطها. أما الأعمال الدائمة والمستمرة والتي ترغب الشركة في ضبطها واتقانها فالشركة تفضل أن تجعلها مصاريف ثابتة. مرة أخرى القاعدة السابقة هي للتبسيط والقرار حول نوعية المصروف يجب أن يدرس بشكل كافي ووافي في الشركة قبل اتخاذ القرار.
لنأخذ مثلاً على المطعم، رواتب معدي الأكل يتعامل معها بعقد قيمته ثابته. هو يستثمر في الموظف ويعلمه ومن خلال تحسين عمليات المطعم يحاول رفع انتاجيته ليصل لأعلى مستوى ممكن. تخيل لو أن المطعم قام باستئجار العمالة مقابل كل وجبه، فيعطي العامل مثلاً، خمسة ريالات للوجبة الواحدة. على النقيض مثلاً، الحملات التسويقية، هي لا تدخل ضمن نشاط المطعم اليومي، وبالتالي سيكون أجدى بالنسبة له توقيع اتفاقية مع وكالة إعلانية لعمل حملة للمطعم.
لاحظ هنا أن المطعم أخذ مخاطرة باستقدام معد الأكل، فإذا لم ينجح المطعم في بيع الوجبات وتشغيل العامل، سيخسر بسبب أنه ملزم بدفع التكلفة لمدة زمنية معينة. تلك المخاطرة كانت لأن المطعم يعرف بأن نجاحه مرتبط بجودة إعداد العامل للأكل، ثم أنه لو تمكن من تحقيق مبيعات عاليه، فإن العوائد ستكون أعلى كون راتب العامل لن يتغير مع حجم المبيعات.
أما في حالة التسويق، والتي لا تقع ضمن نشاط المطعم اليومي. فالمطعم قام بعكس ما سبق، هو تخلص من المخاطرة الخاصة بتحمل التكاليف الخاصة بالتسويق والتي قد يحتاجها في أوقات ولا يحتاجها في أخرى. كما أنها ليست من صميم عمله، وبالتالي لن يتمكن من رفع كفاءة المسوق. فهو يستطيع ولا يمانع للاسباب السابقة، دفع مبلغ ثابت مقابل تلك الخدمات، ليتمكن ضبطها حسب حاجته، والتأكد من أنها في أحسن مستوى من الكفاءة.
مستقبل المطاعم والتوصيل
احتياج المطاعم لعملية التوصيل تختلف، المطاعم الفخمة كما اشرنا سابقاً عملها لا يقوم على التوصيل بل على الاستضافة، ولو رغبت بالتوصيل فإن اسعارها ونموذجها عملها يجب أن يتكيف مع ذلك. مثلاً، أنا ممكن أقبل بدفع ١٥ ريال لعلبة مياه في مطعم راقي، ولكني لن أقبل بهذا المبلغ لو تم توصيله لي للبيت. بالتالي التوصيل قد يكون عملية جوهرية للمشروع إذا كان حجمه يشكل نسبة كبيرة من المبيعات الخاصة بالمطعم، وقد لا يكون كذلك. وهنا يجب أن اؤكد بأن نموذج عمل تطبيقات التوصيل، كان هو الانسب خلال مرحلة بناء السوق واستقطاب الناس له، مع نجاح التطبيقات في ذلك، يجب التوقف عن البناء والتوسع والتركيز على التحسين ورفع الكفاءة للعمليات.
شركات التوصيل
باحتساب بسيط، لو قمت بالطلب من مطعم بقيمة مائة ريال، فإن التطبيق سيحصل على عمولة ٢٠ ريال من المطعم، و٢٠ ريال أخرى مني مقابل عملية التوصيل. أي انه حصل على ٤٠ ريال من تلك العملية. وبمقارنة هذا المبلغ مع ما تحصل عليه شركات توصيل الطرود، فإن هذه القيمة هي تعادل ارسال شحن بذات وزن الوجبة بين مدينتين تبعدان أكثر من ٥٠٠ كيلومتر. خلال السنوات الماضية قبلت أنا وغيري بدفع ذلك المبلغ كونها خدمة جديدة وقليل هم من يقدمونها بإتقان. كما التكلفة على المطعم لم تكن جوهرية، وربما لم يكن أمامه خيارات بديلة.
مع تشكل السوق، المتوقع أن تكلفة الخدمة ستنخفض. أو سيتوجب على التطبيق تطوير خدماته وعروضه ليستمر إحساسي بأني بالقيمة التي أحصل عليها. مثلاً، الأيفون حين دخل سوق الهواتف المحمولة كانت قيمته أعلى من قيمة الجولات الموجودة في ذلك الوقت. ولم يقم بشراءه إلا أقلية. مع زيادة عدد المستخدمين، تحسن أداه وتطور، ثم اضيفت عليه خدمات جديدة حتىأصبح أحد المحاور التي تدور عليه حياتنا. بالاضافة لكونه هاتف اصبح بديل للكمبيوتر ودفتر الملاحظات والراديو وغيرها. ولو لم يحدث ذلك، فالمتوقع أن قيمته ستنخفض مع مرور الوقت.
شركات التوصيل، في بدايتها وعدت بتقديم حل لمشاكل في سوق المطاعم، وليس للتوصيل فقط. فالاضافة للتوصيل هي تقدم خدمات التسويق، وخدمة إدارة العلاقة بالعملاء، وخدمة إدارة وتوجيه الطلبات وخدمة الدعم الإداري بتقديم تقارير المبيعات والتوقعات. على المستوى البسيط نجحت تلك التطبيقات. ولكن بعد مرور السنوات الخمس الماضية، وخصوصاً مع ما حدث في جائحة كورونا شعر المستخدمين بأن الخدمة لم تصل للمستوى الذي يغنيهم فعلاً عن الحاجة عن العمل في بعض تلك الأعمال وعدم الاعتماد على التطبيقات عليها. وهذا من جانب الخدمات المقدمة.
الجانب الآخر، جانب التكلفة، كان من المفترض أن يرافق عملية البناء تركيز على التخصص وتحسين الأداء في تلك العمليات ورفع كفاءتها لتنخفض تكلفتها مع مرور الوقت. فمثلاً، التوصيل هي خدمة لوجستيه. والاستمرار بتقديمها من خلال الأفراد والاقتصاد التشاركي غير مجدي، خصوصاً مع ارتفاع نسبة الاستخدام و القدرة على توقع الطلبات. خدمة التسويق هي خدمة مستقلة وتحتاج لها بعض المطاعم ويلزم وجود متخصصين فيها والدعم عليها. كذلك البيانات الضخمة وتحليلها وإتاحة ما يفيد المطعم منها جزء مهم ويحتاج أيضاً للتخصص والتركيز لبناءه بالشكل الصحيح والمجدي مالياً. ماسبق من خدمات لا يحتاجها كافة المطاعم ولذلك بالإضافة للتخصص في الخدمات المقدمة، يلزم التطبيقات التخصص في أنواع المطاعم وما يحتاجه كل نوع. فمثلاً، هناك أنواع جديدة من المطاعم لا ترغب في التعرف على العملاء وبناء العلاقة أو حتى افتتاح موقع، وهذه المطاعم قد تحتاج للمطابخ المركزية التي تجعلها تقبل بالتكلفة العالية من التطبيق لإدارة العمليات، مقابلة التركيز في الطبخ.
للأسف التطبيقات خلال السنوات الماضية كان تركيزها على التوسع ومحاربة المنافسين، وقلة منهم من قام ببناء نماذج تحقق النقاط السابقة. بالتالي الخدمة لم تتطور كثيراً عن وقت تقديمها، وتكلفتها كذلك لم تنخفض. وفي الوقت ذاته مع نضوج السوق، بدأت شركات جديدة تتولد تختلف في نماذج عملها عن التطبيقات والتوصيل بالظهور، وهذه ستنافس التطبيقات على جبهات مختلفة جديدة.
المطاعم
أما بالنسبة للمطاعم فإن حادثة كورونا، كانت صدمة، دفعتهم لإعادة التفكير في العلاقة مع التطبيقات والتكاليف التي يدفعونها للحصول على الخدمات. حاجة المطاعم للتطبيقات تقسم المطاعم إلى أربعة أقسام:
- مطاعم تشكل علاقتها بعملائها أهمية قصوى، ولديها قابلية لتحمل تكاليف التوصيل. فهذه ستستفيد من التطور التقني الذي يسمح لها بتوفير منتجاتها عبر الانترنت والبيع بشكل مباشر لهم. وثم سيكون أمامها خيارين إما التوجه للتعاقد مع شركات إدارة اساطيل لنقل الغذاء. مما يجعل التكلفة النهائية عليها أقل وكذلك على العميل. مع محافظتها على العلاقة بالعملاء والتواصل المباشر معهم.
- مطاعم شبيه بالسابقة ولكنها لا تمتلك القدرة على امتلاك الأسطول أو بناء حلول تقنية خاصة. وهذه ستجد ضالتها في تطبيقات التوصيل، والتي ستحتاج للتركيز أكثر على توفير بيانات العملاء ودعم عمليات المطعم بشكل أفضل.
- مطاعم لا تهتم بالعلاقة مع العميل، وهذه ستتوجه للمطابخ المركزية وستقوم بتسويق منتجاتها من خلال تطبيقات التوصيل، ولن تمانع بحجم الحصة التي يحصل عليها المطبخ المركزي أو شركة التوصيل.
دراسة جدوى مطعم وجبات سريعة
مطعم للوجبات السريعة ومشروبات غازية ومياه صحية.
العلاقة في المستقبل
ما يحدث في قطاع إدارة الطلبات والتوصيل، شبيه لحد كبير بما حدث في سوق التجارة الإلكترونية. ويمكننا بناء نموذج شبيه لتوقع ما سيحدث في المستقبل. في التجارة الإلكترونية كان الإعتماد على المنتديات ومواقع المبوبات لبيع المنتجات، ثم جاءت بعدها مرحلة المتاجر الخاصة للشركات الكبيرة، ثم منصات المتاجر. حالة المطاعم لن تختلف كثيراً هنا:
- السائقين: وهنا لدينا نوعين منهم، سائقين يعملون بشكل جزئي أو حسب الاقتصاد التشاركي، وسائقين يعملون ضمن شركات إدارة الأساطيل. كتكلفة ستكون الأساطيل أقل تكلفة (كون التكلفة ثابتة)، ولكنها أي الأساطيل لن تكون متاحة في كل مكان وفي كل وقت. قد لا تتمكن من التعاقد مع أسطول للتوصيل في قرية نائية أو مدينة غير رئيسية. وهنا سيأتي دور سائقين الاقتصاد التشاركي، الذين سيكونون أعلى تكلفة كوحدة، ولكن كمجمل عمليات لعدم وجود الأصول، سيكونون أقل تكلفة للعمليات في المناطق النائية والبعيدة عن مركز المدينة. إدارة عمليات هذين النوعين تتطلب شركة إدارة خدمات لوجستية، تركيز عملها على إدارة السائقين وتوفير الأعمال لهم. كما سيكون تركيز عملها، لكونها ليست مستهدفة المطاعم فقط، على رفع كفاءة تشغيل السائق والسيارة. ففي فترات انخفاض الطلبات ستقوم بتشغيل السيارات لخدمة شريحة أخرى. حينها فقط سيكون الاستثمار في السيارات والثلاجات منطقياً. مثلاً السيارة تعمل في النهار لتوصيل المأكولات في أوقات الوجبات الرئيسية، ثم تقوم بتوصيل الأدوية والمواد الغذائية في بقية الأوقات، وفي المساء تقوم بتوريد وتوزيع الخضروات على المطاعم والمطابخ المركزية.
- المستخدمين النهائيين: هؤلاء هم أكثر الشرائح حساسية للسعر، كونهم هم من يقومون بالدفع في هذه العملية. يهمهم الجودة والسرعة وسلامة البضاعة المنقولة. وهؤلاء سيتم خدمتهم من خلال تطبيقات الطلب عبر الانترنت. سيكون تركيز تلك التطبيقات على توفير العروض والخيارات المتعددة. بحيث يصبح هذا التطبيق أشبه بالريموت كنترول الخاص بالمستخدم. يقوم بتحديد الطلب، وخلال مدة وجيزة يتم تجهيزه وتوفيره له. هذه التطبيقات ستتعاقد وتربط مع شركات إدارة مزودي الخدمات من جهة ومع شركات إدارة التوصيل من جهة أخرى. ونموذج عملها شبيه بالتطبيقات الحالية مع التركيز على العملاء والخدمات المقدمة فقط.
- المطاعم: عمليات المطاعم تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أعمال إدارية ومالية، أعمال تسويقية، وأعمال تشغيلية. وبناء على هذه التفرعات ستتولد شركات توفر أنظمة قابلة للربط بين تلك الأقسام الثلاثة من جهة، ومع شركات إدارة عمليات التوصيل والمستخدمين النهائيين من جهة أخرى. بالتالي يتمكن كل مطعم من الحصول على ما يحتاجه من خدمات دون أن يضطر لشراء أكثر مما يحتاج أو يحصل على أقل مما يحتاج. والمطاعم بناء على ذلك، ستكون إما مطاعم لا يهمها العلاقة مع العميل أو التفاعل المباشر معه، وهذه قد تتوجه للمطابخ المركزية مثلاً والبيع من خلال منصات بيع مشتركة. وهناك مطاعم يهمها العلاقة مع العميل وترغب بمنحه تجربة فريدة عند الشراء، وهذه قد تطلب خدمات متعددة وقد يصل بها الأمر لبيع منتجاتها من خلال موقعها الخاص وإمتلاك أسطول خاص للتوصيل. ومطاعم بين النوعين.
سيدفع السوق للتشكل بهذا الشكل، عدة عوامل. أولها التكلفة على المطعم والذي يرغب في الحصول على خدمة مخصصة ومتناسبة مع المبلغ الذي يدفعه. وكذلك التكلفة على المستخدم النهائي الذي سيجد خيارات بديلة أكثر موثوقية وأقل تكلفة ليستفيد منها. وأخيراً القوانين والتنظيمات التي سيتم استحداثها لتنظيم السوق وضمان توافق عملية التعامل مع الاغذية وتوصيلها مع الاشتراطات الصحية والسلامة.
لا يجب أن تؤدي هذه الأزمة إلى اتباعنا لردود فعل انفعالية، التطبيقات ليست شر، ويجب أن نتذكر بأنهم ساهموا في بناء هذا السوق الجديد وساعدوا في تشكيله. الخدمة التي يقدمونها حالياً قد لا تتناسب مع كافة الشرائح، وبالتالي نحتاج للتخصص وهذا ما بدء يحدث فعلياً في السوق. فظهرت شركات تسهل على المطاعم إنشاء مواقعها عبر الانترنت، وتساعد في عملية ربط العمليات. كما أن هناك أنظمة متخصصة للتوصيل والتعامل مع العملاء. ولتصحيح السوق وضمان وصولنا لما نطمح له جميعاً، نحتاج لفتح قنوات التواصل والتفكير في المصالح الخاصة والمصالح الخاصة بالقطاع. ثم اتخاذ القرار الأنسب.